غموض في مصر القديمة

قصة قصيرة – رزق المغاوري

جنَّ الليلُ، وانتشرَ السوادُ، لا تكادُ تسمعُ إلا صفيرَ الريح التي تكنس شوارعَ القرية، المنظرُ كئيب، بيوتٌ طينيةٌ قديمةٌ، سقفُها من القشِّ والبوص، لا أضواءَ إلا النجوم الخافتة، حتى القمرُ محاق، لا حياة، كأنك وسطَ مقبرة، كأنها قريةٌ لأموات، ويقف حارسانِ من الحجارة على مدخلها، ليشهدا على تاريخٍ لم يبقَ منه إلا الحجارة، ولم يقطعْ هذا السكونَ الطويلَ الموحشَ إلا صوتُ الشيخ عبد القادر حين أذن لصلاة الفجر.

استيقظت الحاجة سنية على صوت الأذان فقالت:

–          يا حاج عبد السلام.. يا أبو محمود.. أدان الفجر.. قوم..

–          صباح الخير يا سنية، صحِّي محمود عشان يصلي، ربنا يوفقه في اللي جاي، حياة جديدة، وبلاد غير البلاد، ومستقبل مستنيه.

–          ما تخافش يا حاج، محمود طالع لك، وإن شاء الله هيرفع راسك.

قام الحاج عبد السلام، وتوضأ، وأمسك بعصاه، وتوجه للمسجد في خشوع، ولحق به ولدُه محمود، وبعد الانتهاءِ من الصلاة عادا إلى البيت، ولكنهما لم ينبسا بكلمة واحدة، جلسا في مقعدِ البيت، بينما كانت الحاجة سنية تعد الإفطار، ثم قطع الحاج عبد السلام هذا الصمتَ قائلا:

–          يا محمود يا ابني.. خلّي بالك على روحك، الحياة في المدينة غير القرية، هتشوف ناس غير الناس، والجامعة فيها الحلو وفيها الوحش، خلي صاحبك كتابك وبس.

–          ما تخافش يا حاج، ربنا يستر، والله صعبان عليَّا فراق البلد وناسها، والتماثيل اللي كنت كل يوم أروح أقعد عندها، أكلمها وتكلمني.

–          مصر كلها تماثيل يا ابني، في كل مكان هتلاقي فراعنة، والناس الطيبين في كل حتة، المهم بص للمستقبل.

–          الفطار يا أبو محمود، يلا يا محمود.

وبعد أن تناولوا الإفطارَ، خرج محمود من البيت، وتوجه إلى مدخلِ قريتِه، وجلس في عشةٍ من البوص بالقرب من التمثالينِ كعادتِه، وظل يحكي لهما عن أحلامِه وأفكارِه، وكيف أنه سيكون طالبًا مجتهدًا في كلية الآثار، وأنه حين يصبح وزيرًا للآثار، سينقل التمثالين للمتحف، ثم أسند ظهرَه على أحد قوائمِ العشة، وعيناه على التمثالين، ثم راح في سُبات عميق.

                                                                   ***

فتح محمود عينيه فلم يجد التمثالين، هبَّ مذعورا، ينظر يمينًا ويسارًا فلم يجد شيئًا، ظلَّ يسأل الناسَ لكنْ لا أحدَ يسمعُه أو يردُ عليه، حتى أيقن أنهم لا يرونه، فهرول تجاه قريته، فرآها قد تبدلت وتغير حالُها، وجد بيوتَها الطينيةَ استحالت حجرًا، وشوارعَها الترابيةَ قد فُرشت رملًا، ومياهَ الريِّ التي يندر وجودُها قد ملأت ترعةَ القرية وقنواتِها، والأرضَ التي تركها أصحابُها وهاجروا بحثًا عن لقمة العيش قد اخضرّت وأثمرت، وبُنيتْ مدرسةٌ كبيرةٌ لتعليم الأطفال، كلُّ شيء تغير للأفضل.

ظلَّ محمود يتجول في القرية، التى اكتسا أهلُها بالثياب البيضاء، هو يعرف هذه المظاهر، إنها مظاهرُ مصر الفرعونية، فالحضارةُ – في كلِّ شبرٍ – واضحةٌ، وجد الشبابَ يلعبون كرة القدم، نعم.. ليست ككرة القدم لدينا، لكنها قريبة منها.

فجأة!…

صراخٌ مرتفعٌ يأتي من وسطِ القرية، هرول الشبابُ تجاه الصوت ومحمود معهم، الصوتُ يأتي من داخل المسبح، تجمهر الناس، خرج الكاهن من المسبح يطمئنُ الناس، قائلا:

–          لا شيء، لا تقلقوا، لصٌ أخذ عقابَه.

ثم انصرف الكاهن.

ولكنّ الناسَ في صمتٍ وذهولٍ، كأنهم لا يصدقونه، فتساءل محمود:

–           ماذا حدث؟ ما هذه الصرخة التي سمعتها؟

 فدخل المسبح، فإذا الدماءُ قد اختلطت بالمياه، وإذا بتمساحٍ في الماء يأكلُ شابًا، والجنودُ من حولِه ينتظرون أن ينهيَ وجبتَه، فقال أحدُ الجنود:

–          يستحق ما حدث له، ألم يجد سوى امرأة الكاهن؟!

فقال جندي آخر:

–          هي من أحبتْه، ولم يكن له خيار، إما السمع والطاعة وإما القتل، وقد حصل على الخيار الثاني في الحالين.

–          هل رأيت ما حدث للشاب؟ ومن أين جاء هذا التمساح؟

فرد عليه الجندي الأول:

–          نعم رأيت، لقد كان في المسبح تمثالٌ شمعيٌّ على هيئة تمساح، وحين نزل الشاب ليستحم، جاء الكاهن وألقى تعويذةً سحريةً على التمثال الذي دبتْ به الحياة، وانقض على الشاب فافترسه.

خرج محمود من المسبح يحدثُ نفسَه:

–           هل للكاهنِ هذه السلطةُ التي تجعلُه ينهي حياةَ إنسانٍ حين يقرر ذلك؟ وهل وصل المصريون لهذه الدرجة في إتقان السحر؟

  وظلَّ يمشي في شوارع القرية يتأملُها، ينظرُ لوجوه المصريين، هي الوجوهُ نفسُها، لا اختلافَ بين القدماء وأهلِ قريتِه، فإذا به أمام أرضٍ واسعة، والكثير والكثير من العمال.

–          ما هذا المكان؟ وماذا يفعل هؤلاء العمال؟

تجول محمود داخلَ المكان ليكتشفَ أنه مصنعٌ كبيرٌ لصناعة التماثيل، وأخذ ينظر إلى العمال المَهرة الذين ينحتون التماثيلَ بفن ودقة بالغة، وتفاجأ محمود حين رأى التمثالين اللذين كانا على مدخلِ قريتِه، لكنهما ما زالا غيرَ مكتملين، توقف أمامهما كثيرا، لكن ما جعله يتوقفُ أكثرَ بفخرٍ وإعجابٍ ودهشةٍ، هو نِقاشُ العمال في كيفية نحت التماثيل، والمقاسات الدقيقة، والحساباتِ الرياضية المعقدة، حتى إنه لم يسمعْ عن هذه الحسابات في المرحلة الثانوية.

أوشك اليوم أن ينتهيَ، وبدأ النهار ينسحب، وينسج الليلُ خيوطَه، وفكر محمود في أنه يجب أن يجد مكانا ليبيتَ فيه ليلتَه، قبل أن ينتشر الظلام، وتكسو هذه الحضارةَ وحشةٌ مظلمة، كتلك التي عهِدها في قريته، ففكر في أن ينامَ  في عشته، وأن يجمعَ الحطبَ ليصنع نارا تؤنسَ ليلتَه.

جمع محمود بعضَ الأخشاب والحطب، وأخذ شعلةَ نارٍ من على باب المعبد القريب، وتوجه إلى عشتِه، صنع نارا وجلس يفكر فيما رأى وسمع.

–          ما هذه الحضارة؟ ما هذا التقدم؟

وظلَّ يقارن بين العصرين، ولكنه لم يكن يعلم أن صدمةً أخرى تنتظره بعد لحظات، صدمة ستُذهب عقلَه.

حلَّ الليل، وهمَّ محمود لينام، لكنّ حركةَ المارة أمامه لم تهدأ.

–           متى تهدأ حركةُ هؤلاءِ الناس؟ ألا يمنعُهم هذا الظلامُ من الخروج؟

لكنّ الحركةَ مستمرةٌ، فظنَّ أن هناك خطبًا جعل الناسَ يخرجون، فخرج من كوخِه ونظرَ للقرية، ولكنه صُعق مما رأى، إن القرية بها كهرباء!

–     ما هذا؟! لا أكاد أصدق! هل هذه كهرباء؟! كيف اكتشف المصريون القدماء الكهرباء؟ لقد تعلمنا في المدرسةِ أن توماس إديسون اخترع المصباح الكهربائي في القرن التاسع عشر.

أسرع محمود باتجاه القرية، وهو غيرُ مصدقٍ لما يرى، فوجد أعمدةً طويلةً من الحجارة، مثبتًا عليها بلوراتٌ زجاجيةٌ مضيئة، وأسفلَ كلِّ عمودٍ خزانٌ صغيرٌ به سائل، هو المسئول عن توليد هذه الطاقة.

–          هل هذا حلم؟ كيف وصل المصريونَ القدماءُ لكل هذا التقدم؟ لماذا تخلّفْنا إذًا؟

تجول محمود في القرية على ضوء الكهرباء الفرعونية سعيدًا حتى أُرهقَ، فعاد إلى كوخِه، وألقى بجسدِه على القشِّ، فنام نوما عميقًا.

وفي صباح اليوم التالي خرج محمود من الكوخ، يأملُ أن يرى أشياءَ غريبةً كأمس، فظلَّ يذهبُ ويجيءُ يرى هذه العجيبة، وينظر لهذه الغريبة، حتى تعبَ من اللّف والدوران فجلس يستريح، لم يمر وقتٌ طويلٌ حتى وجد الناسَ يتهامسون ويتركون أعمالَهم وأشغالَهم ويذهبون في جماعات، فعلم أن هناك شيئًا جللًا، فأسرع على أثرهم، فإذ بهم يتجمعون في ساحةٍ كبيرةٍ، خيَّم عليها السكون.

–          لماذا هذا التجمع؟ ولما هذا السكون؟ هل هي مراسمُ جنائزيةٌ أم ماذا؟

ظلَّ محمود يترقب الموقف، حتى جاء حاكمُ القريةِ في حراسةِ بعضِ الجنود ومعهم الخدم الذين كانوا يحملون الكثيرَ من الطعام ووضعوه على مائدةٍ مهيبةٍ، وظلَّ الجميعُ ينتظر.

كان محمود يعلم أن شيئًا كبيرًا سيحدث، لكنه لا يعلم ماهيته، ولما الكل صامت، لا أحد يتكلم، الجميع ينظرون لأعلى، إلى السماء، لا كلام، صمْت، ثم قطع هذا الصمت أصواتٌ مرتفعةٌ صاخبةٌ تأتي من السماء، نظر محمود لمصدر الصوت، فإذا بعينيه تتحجرُ من هَول ما رأي!

–          ما هذا؟ لا أصدق!

–          هل هذه مركبات فضائية؟!

هبطت ثلاثُ مركبات فضائية في الساحة الواسعة، ثم خرجت منها كائناتٌ تشبهُ الكائناتِ الفضائيةَ التي نراها في أفلام الخيال العلمي، اقترب قائدُ الكائنات من حاكمِ القرية الذي قام من على عرشه على غيرِ عادته، واستقبله وأجلسه على مائدة الطعام، فأشار القائدُ إلى جنوده ليجلسوا ويأكلوا، وتناقش حاكمُ القرية مع القائد بصوتٍ غيرِ مسموع، ثم قام هو وجنودُه وركبوا مركباتهم وانطلقوا عائدين، ثم انفض الناسُ لأشغالِهم، ظلَّ محمود متحجرا مكانَه، لا يكاد يصدق ما حدث.

–          ما هذا؟ هل ما رأيتُه حقيقة أم خيال؟ هل هؤلاء فضائيون حقًا؟ هل وصل الفراعنةُ لكل هذا العلم؟ هل استطاعوا أن يتواصلوا مع سكان السماء، يا لعظمة أجدادي! ليتني كنت أعيشُ في هذا العصر، هذا عصر العلم بلا منازع.

اشتدتِ الشمسُ عند الظهيرة، وبدأ الناسُ يعودون لبيوتهم ليحتموا من حرارة الشمس، فعاد محمود إلى كوخه، ظلَّ جالسًا يبتسم حينًا فخورًا بما وصل إليه أجدادُه الفراعنة، حزينًا لما وصل إليه المصريون في وقتنا، يقارنُ بين التعليم في زمانِهم وزمانِه، بين العلوم في عصرِهم وعصرِه، بين الجمالِ نظيرَ القبح، بين الجميلاتِ، والمتّشحاتِ بالسواد، ثم أخذتْه سِنةٌ، وسبح في أفكارِه وأحلامِه، لكنّ نومَه لم يطل، فقد نكزتْه عصا نكزةً خفيفةً في ساقِه، استيقظ على أثرها، ليجدَ الحاج عبد السلام واقفًا أمامه قائلًا:

–          يلا يا محمود يا ابني، هتفضل هنا لحد إمتى؟ الضهر هيأدن.

ظلَّ محمود برهةً ينظر لوالده، حتى استفاق من حلمه، فنظر أمامه فإذا بالتمثالين لم يبرحا مكانَهما، فنهض واقفًا، ومشى مع أبيه عائدًا إلى البيت، ناظرًا إلى كل مكان في قريتِه، متمنيًا أن تصبحَ كما رآها في حلمه، وفي اليوم التالي استيقظ محمود مع الفجر، وذهب ليصليَ الفجر مع والده، ثم عاد وتناول إفطارَه، وأخذ حقيبتَه، وخرج من القرية ملقيًا التحيةَ على التمثالين، وانطلق إلى القاهرة، لكنّ حلمَه لا يزال عالقًا في رأسه، وسيظلَّ كذلك حتى حين…

 

أضف تعليق